· روى ابن الدنانير النمّار قال: حدثني غلام قال لي:
كنت ناقدا بالأبلة لرجل تاجر, فاقتضيت له من البصرة نحو خمسمئة دينار وورقا ولففتها في فوطة, وأمسيت على المسير الى الابلة, فما زلت أطلب ملاحا فلا أجد, الى أن رأيت ملاحا مجتازا في خيطيّة خفيفة فارغة, فسألته أن يجملني, فخفف علي بالأجرة وقال:
أنا أرجع الى منزلي بالابلة, فانزل.
فنزلت, وجعلت الفوطة بين يدي وسرنا, فاذا رجل ضرير على الشط يقرأ أحسن قراءة تكون, فلما رآه الملاح كبّر, فصاح هو بالملاح:
احملني, فقد جنّني الليل وأخاف على نفسي.
فشتمه الملاح, فقلت له احمله.
فدخل الى الشط فحمله, فرجع الى قراءته, فخلب عقلي بطيبها, فلما قربنا من الابلة قطع القراءة, وقام ليخرج في بعض المشارع بالأبلة, فلم أر الفوطة, فاضطربت وصحت واستغاث الملاح, وقال:
الساعة تنقلب الخيطية.
وخاطبني خطاب من لا يعلم حالي, فقلت:
يا هذا, كانت بين يدي فوطة فيها خمسمئة دينار!
فلما سمع ذلك الملاح لطم وبكى وتعرّى من ثيابه وقال:
لم أدجل الشط ولا لي موضع أخبئ فيه شيئا فتتهمني بسرقة, ولي أطفال وأنا ضعيف, فالله الله في أمري.
وفعل الضرير مثل ذلك, وفتشت الخيطية فلم أجد فيها شيئا, فرحمتهما وقلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها.
وخرجنا, فعملت على الهرب, وأخذ كل واحد منا طريقا, وبت في بيت ولم أمض الى صاحبي, فلما أصبحت عملت على الرجوع الى البصرة لأستخفي بها أياما, ثم أخرج الى بلد شاسع, فانحدرت وخرجت في مشرعة بالبصرة, وأنا أمشي وأتعثر وأبكي قلقا على فراق أهلي وولدي, وذهاب معيشي وجاهي.
فاعترضني رجل, فقال: ما لك؟
فأخبرته. فقال: أنا أرد عليك مالك.
فقلت: يا هذا, أنا في شغل عن طنزك بي.
قال: ما أقول الا حقا. امض الى السجن ببني نمير, واشتر معك خبزا كثيرا وشواء جيّدا وحلوا, وسل السجان أن يوصلك الى رجل محبوس هناك يقال له:" أبو بكر النقاش". قل له: أنا زائره, فانك لا تمنع, فان منعت فهب للسجان شيئا يسيرا يدخلك اليه, فاذا رأيته فسلم عليه ولا تخاطبه حتى تجعل بين يديه ما معك, فاا أكل وغسل يديه, فانه يسألك عن حاجتك, فأخبره خبرك, فانه سيدلك على من أخذ مالك ويرتجعه لك.
ففعلت ذلك ووصلت الى الرجل, فاذا شيخ مكبّل بالحديد, فسلمت وطرحت ما معي بين يديه, فدعا رفقاء له, فأكلوا, فلما غسل يديه قال:
ما أنت وما حاجتك؟
فشرحت له قصتي.
فقال: امض الساعة الى بني هلال, فادخل الدرب الفلاني حتى تنتهي الى آخره, فانك تشاهد بابا شعثا, فافتحه وادخله بلا استئذان, فتجد دهليزا طويلا يؤدي الى بابين, فادخل الأيمن منها فسيدخلك الى دار فيها بيت فيه أوتاد, وعلى كل وتد واترز بالمئزر واتشح بالازار واجلس, فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت, ثم يئتون بطعام فكل معهم, وتعمّد موافقتهم في سائر أفعالهم, فاذا أوتي النبيذ فاشرب, وخذ قدحا كبيرا واملأه وقم قائما وقل: هذا ساري لخالي أبي بكر النقاش, فسيفرحون, ويقولون: أهو خالك؟ فقل: نعم, فسيقومون ويشربون لي, فاذا جلسوا فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام ويقول:" يا فتيان, بحياتي ردوا على ابن اختي المئزر الذي أخذتموه بألمس في السفينة بنهر الابلة", فانهم يردونه عليك.
فخرجت من عنده ففعلت ما أمر, فردّت الفوطة بعينها وما حلّ شدّها, فلما حصلت لي قلت:
يا فتيان هذا الذي فعلتموه معي هو قضاء لحق خالي, ولي أنا حاجة تخصني.
قالوا: مقضيّة.
قلت: عرّفوني ميف أخذتم الفوطة؟
فامتنعوا ساعة, فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش, فقال لي واحد منهم: أتعرفني؟
فتأملته جيدا فاذا هو الضرير الذي كان يقرأ, وانما كان متعاميا.
وأومأ الى آخر فقال: أتعرف هذا؟
فتأملته فاذا هو الملاح, فقلت:
كيف فعلتما؟
فقال الملاح: أنا أدور المشارع في أول أوقات المساء, وقد سبقت بهذا المتعامي, فأجلسته حيث حيث رأيت, فاذا رأيت من معه شيء له قدر ناديته, وأرخصت له الأجرة وحملته, فاذا بلغت الى القاري وصاح بي شتمته حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة, فان حملت الراكب فذاك والا رققته عليه حتى يحمله, فاذا حمله وجلس يقرأ ذهل الرجل كما ذهلت, فاذا بلغنا الموضع الفلاني, فان فيه رجلا متوقعا لنا يسبح حتى يلاصق السفينة, وعلى رأسه قوصرة, فلا يفطن الراكب به, فيسلب هذا المتعامي الشيء بخفية, فيلقيه الى الرجل الذي عليه القوصرة, فيأخذه ويسبح الى الشط, واذا أراد الراكب الصعود وافتقد ما معه عملنا كما رأيت, فلا يتهمنا ونفترق, فاذا كان منغد اجتمعنا واقتسمناه, فلما جئت برسالة أستاذنا خالك سلمنا اليك الفوطة.
قال: فأخذتها ورجعت.
· كان ببغداد رجل يطلب التلصص في حداثته, ثم تاب فصار بزازا. فانصرف ليلة من دكانه وقد غلقه, فجاءه لص محتال متزيّ بزي صاحب الدكان في كمه شمعة صغيرة ومفاتيح, فصاح بالحارس, فأعطاه الشمعة في الظلمة, وقال:
أشعلها وجئني بها, فان لي الليلة بدكاني شغلا.
فمضى الحارس يشعل الشمعة, وركب اللص على الأقفال, ففتحها ودخل الدكان, وجاء الحارس بالشمعة, فأخذها من يده, فجعلها بين يديه, وفتح سفط الحساب, وأخرج ما فيه وجعل ينظر الدفاتر ويرى بيده أنه يحسب والحارس يتردد ويطالعه, ولا يشك في أنه صاحب الدكان, الى أن قارب السحر, فاستدعى اللص الحارس, وكلمه من بعيد وقال:
اطلب لي حمالا.
فجاء بحمال, فحمل عليه أربع رزم مثمنة, وقفل الدكان وانصرف ومعه الحمال وأعطى الحارس درهمين.
فلما أصبح الناس جاء صاحب الدكان ليفتح دكانه, فقام اليه الحارس يدعو له ويقول: فعل الله بك وصنع كما أعطيتني البارحة درهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه, وفتح دكانه, فوجد سيلان الشمعة وحسابه مطروحا وفقد الأربع رزم, فاستدعى الحارس, وقال له:
من كان حمل الرزم معي من دكاني؟
قال: أما استدعيت مني حمالا فجئتك به؟
قال: بلى, ولكن كنت ناعسا وأريد الحمال فجئني به.
فمضى الحارس فجاء بالحمّال. وأغلق الرجل الدكان وأخذ الحمّال ومضى, فقال له:
الى أين حملت الرزم معي البارحة؟
قال: الى المشرعة الفلانية, واستدعيت لك فلانا الملاح, فركبت معه.
فقصد الرجل المشرعة, وسال عن الملاح, فحضر وركب معه, وقال:
أين رقيت أخي الذي كان معه الأربع رزم؟
قال: الى المشرعة الفلانية.
قال: اطرحني اليها.
فطرحه.
قال: من حملها معه؟
قال: فلان الحمال.
فدعا به, فقال له: امش بين يدي.
فمشى فأعطاه شيئا واستدله برفق الى الموضع الذي حمل اليه الرزم, قجاء به الى باب غرفة في موضع بعيد من الشط قريب من الصحراء, فوجد الباب مقفلا, فاستوقف الحمال وفش القفل ودخل, فوجد الرزم بحالها! واذا في البيت برّكان معلق على حبل, فلف الرزم فيه ودعا بالحمال, فحملها عليه وقصد المشرعة.
فحين خرج من الغرفة استقبله اللص, فرآه وما معه, فأبلس فأتبعه الى الشط, فجاء الى المشرعة ودعا الملاح ليعبر, فطلب الحمّال من يحط عنه, فجاء اللص فحط الكساء كأنه مجتاز مقطوع, فأدخل الرزم الى السفينة مع صاحبها, وجعل البرّكان على كتفه وقال له:
يا أخي استودعك الله, فقد ارتجعت رزمك, فدع كسائي.
فضحك وقال: انزل فلا خوف عليك.
فنزل معه واستتابه ووهب له شيئا وصرفه ولم يسيء اليه.